مقال رأي وتحليلات

المال السري من البلدان الأجنبية، الذي يؤثر على السياسة الداخلية والخارجية الأمريكية

توصل تقرير جديد من معهد كوينسي Quincy Institute for Responsible Statecraft، وهو معهد أبحاث مُستقل، إن صناعة مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة، والتي تُحدد شروط المناظرات في كثير من مجالات صُنع السياسات الأميركية، تطفو على بحر من أموال الحكومات الأجنبية ومقاولي وزارة الدفاع الأمريكية

يقول التقرير، إن أكبر خمسين مركزا بحثيا حصلت على نحو 110 مليون دولار على مدى السنوات الخَمس الماضية من الحكومات الأجنبية والكيانات ذات الصلة، بما في ذلك ما يقرب من 17 مليون دولار من الإمارات، وهي من أكبر المانحين الأجانب، وفي الوقت نفسه، قدمت شركات المقاولات الرائدة لدى وزارة الدفاع الأمريكية، ما يقرب من 35 مليون دولار خلال نفس الفترة.

تصدرت مراكز البحث، مثل (المجلس الأطلسي و مؤسسة بروكينغز ) قائمة المُستفيدين من الحكومات الأجنبية، حيث حصلا على ما يقرب من 21 مليون دولار و أكثر من 17 مليون دولار على التوالي.

في المجمل، ساهمت 54 حكومة مُختلفة في هذه الصناعة (صناعة البحث والتفكير)، وهي القائمة التي تتألف إلى حد كبير من الديمقراطيات المؤيدة للغرب، ولكنها تشمل كذلك (أنظمة ثرية) بشكل خيالي مثل (المملكة العربية السعودية وقطر)

الأمر الأكثر إزعاجًا هو أن التقرير يوضح أن الأرقام التي يَستشهد بها التقرير قد تكون جزئية فقط: على عكس لجان العمل السياسي التقليدية أو العملاء الأجانب المُسجلين، لا يتعين على مراكز الأبحاث الكشف عن مصدر أموالها.

أخبر صحيفة بوليتيكو المؤلفان المشاركان في التقرير وهما (بن فريمان ونيك كليفلاند ستاوت)، أن البحث في الدراسة يعني التدقيق في التقارير السنوية للمنظمات على أمل أن يتم تبادل المعلومات طواعية.

قال بن فريمان لصحيفة بوليتيكو:

“أكثر من ثلث مراكز الأبحاث الرائدة في السياسة الخارجية في الولايات المتحدة لا تكشف عن أي معلومات عن الجهات المانحة”.

تشمل (18) من أكبر 50 مركز أبحاث في الولايات المتحدة، بما في ذلك مؤسسات مرموقة مثل (معهد أميركان إنتربرايز أو معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى).

قال بن فريمان لصحيفة بوليتيكو:

“ليس لدينا حقًا أي فكرة على الإطلاق عن الجهة التي تمولها، نطلق على هذه المنظمات مراكز أبحاث الأموال السرية”.

إن هذا المُصطلح المُحمل بالمعلومات ــ المُستمد من الجماعات السياسية السرية.

وفقا لبن فريمان وكليفلاند ستاوت، فإن مؤسسة الفكر النموذجية في عام 2024 تبدو أشبه بمجموعة مُناصرة أكثر من كونها مركزاً للبحث والتفكير.

لا يتطرق البحث إلى تحليل ما إذا كانت بحوث جاهزة محددة قد تم شراؤها ودفع ثمنها، ولكن المضمون واضح: بين الظهور الإعلامي، الشهادة أمام الكونغرس، والعمل كحكومات صغيرة في انتظار أي حزب خارج السلطة، تبذل المنظمات الكثير لتشكيل الحوار السياسي، أو على الأقل وضع حدود لما تعتبره الولايات المتحدة (حوار محترم).

وعلى هذا النحو، كما يقولون، فإن الأميركيين لديهم مصلحة راسخة في معرفة من الذي يؤيد أراءهم.

وهناك مشكلتان في هذا الطلب، إحداهما دستور الولايات المتحدة، الذي يجعل من الصعب على الحكومة أن تأمر ببساطة منظمة خاصة بكشف كل شيء.

إما السبب الثاني، هو تصور العديد من مراكز الأبحاث لأنفسها، والتي غالباً ما تصور نفسها على أنها منظمات بحثية رفيعة المستوى وليس مجرد مؤسسات متورطة في أعمال (الضغط الممولة)، وهذه العقلية هي التي تكمن وراء بعض التردد في الكشف عن الاموال التي يستلموها، بشكل طوعي.

يُعتقد أن الوقت قد حان للتغلب على هذا، ففي لحظة إنخفاض الثقة، حيث أصبحت وجهات نظر العديد من مراكز الأبحاث السياسية على وشك مواجهة هجوم غير مسبوق، يتعين عليها أن تبذل قصارى جهدها لإثبات شرعيتها، ولن يكون الاختباء وراء (شهادات الدكتوراه) التي حصل عليها باحثوها ــ وكأنهم أساتذة فلسفة يعيشون في أبراج عاجية ولا يستطيعون حتى إيجاد طريقهم إلى مكتب المحاسبة ــ كافياً.

إذا كانت النتيجة النهائية هي أن تصور مراكز الأبحاث لأنفسها (كباحثين) يصبح مشوشاً بعض الشيء، فربما يكون هذا خبراً طيباً لثقافة الحكومة الأمريكية، حتى ولو كان ذلك من شأنه أن يخدش غرور بعض الباحثين.

ولكي نفهم السبب وراء ذلك، فلا يتعين علينا أن ننظر إلى ما هو أبعد من فضيحة التورط الأجنبي الأخيرة التي هزت عالم مراكز الأبحاث: اعتقال الباحثة في مجلس العلاقات الخارجية (سو مي تيري Sue Mi Terry) في الصيف الماضي بتهمة العمل بشكل غير لائق لصالح الحكومة الكورية الجنوبية.

ما كان ملحوظاً في هذه القضية لم يكن أي فظاعة مزعومة: فقد زعمت سو مي تيري أنها قبلت هدايا على شكل (حقائب يد باهظة الثمن) في مقابل نشر مقالات رأي تقليدية نسبياً تعكس إلى حد كبير وجهات نظر المؤسستين الكورية والأميركية.

نفت سو مي تيري الاتهامات، يُعتقد أن القضية المرفوعة ضدها لن تكون حاسمة في المحكمة.

مع ذلك، فإن الحقيقة التوضيحية هي أن الكثير مما تُتهم به (سو مي تيري) ليس أكثر من نسخة أكثر إهمالاً من الوضع الراهن القانوني تماماً، بحسب البحث المقدم من قبل مؤسسة كوينسي، قدمت كوريا الجنوبية ما لا يقل عن 4.4 مليون دولار لمراكز الأبحاث الكبرى منذ عام 2019.

السؤال الحقيقي الذي ينبغي أن يثيره التقرير هو: لماذا يستحق عمل مركز أبحاث …. الإستثمار (دفع المال) من قبل حكومة أجنبية، قانونيًا أو لا؟

ج/ ذلك لأن مراكز البحث لها مكانة في حروبنا السياسية التي لا تنتهي.

الواقع أن تقرير مؤسسة كوينسي يشكل مثالاً جيداً لعمل مراكز الأبحاث في مجال الدعوة السياسية، و ذلك أن مركز الأبحاث هذا ليس مُنظمة مُخصصة للمسألة المُجردة المتمثلة في الشفافية في أبحاث السياسات، بل إن مؤسسة كوينسي نفسها…توصف بأنها منظمة “موجهة نحو العمل” تعمل على :

“كشف العواقب الخطيرة المترتبة على السياسة الخارجية الأميركية المُفرطة في العسكرة وتقدم أسلوب بديل لها”.

وباعتبارها معقلاً مناهضاً للتدخل (الخارجي)، فإنها تنقل آراء الكثير من المُعارضين لـ”كتلة” السياسة الخارجية الأميركية الدولية ــ وربما أكثر ميلاً إلى الشك في أن آراء المؤسسة تشتريها وتدفع ثمنها حكومات ذات مصالح ذاتية وعمالقة الصناعة العسكرية.

ولا عجب أن يركز التقرير على الأموال الواردة من الخارج أو أموال شركات تصنيع الأسلحة، على النقيض من التبرعات من شركات الأدوية الكبرى أو شركات التقنية أو أي مصلحة راسخة أخرى قد ترغب في توجيه السياسة الأميركية.

أو، في هذا الصدد، التبرعات من المنظمات المُرتبطة بالعوائل (مثل عائلة كوتش Koch أو جورج سوروس George Soros)، وكلاهما يتبرع لمؤسسة كوينسي.

كما ساهم ديفيد ساكس، وهو شخصية بارزة جداً، و الذي من المقرر أن يتولى منصب “قيصر” الذكاء الاصطناعي في إدارة دونالد ترامب الثانية، في نشر التقرير.

من جانبه، قال بن فريمان لصحيفة بوليتيكو، إنه يود أن يرى في نهاية المطاف أبحاثًا حول تبرعات مراكز الأبحاث من قطاعات أخرى.

يصنف التقرير حاليًا المنظمات على أساس شفافيتها، وسيتزامن مع إطلاق أداة تتبع التمويل المُصممة لتمكين القراء من البحث عن التبرعات الأجنبية والعسكرية لمراكز الأبحاث بنفس الطريقة التي يمكنهم بها البحث عن التبرعات للمسؤولين المنتخبين.

ماهي دوافع السياسة الخارجية للمؤلفين، لانعلم، ولكن هي فكرة ذكية ومفيدة.

أما بالنسبة لمؤسسة كوينسي، قال بن فريمان، فإن الأمر المهم هو أننا نعرف من هم المانحون، وهو ما قد يساعد في وضع عمل المجموعة في سياق إيجابي أو غير ذلك، اعتمادًا على وجهة نظرك في المُانحين، و أعتقد أن الخيط عبر جميع توصياتنا هو هذه (الشفافية)، حيث يجب على مراكز الأبحاث أن تكشف كل أوراقها، ثم تسمح لمتلقي معلوماتها بالحكم بأنفسهم عليها.

ولكن للأسف، كانت الجهود الرامية إلى إيجاد السبل لإرغام المنظمات السياسية على الكشف عن الجهات المانحة لها تميل إلى الموت في الكونغرس، وما يسمى بسياسات “الحقيقة تظهر أثناء الشهادة في الكونغرس” ــ التي تتطلب الاستماع إلى الشهود ليقولوا ما إذا كان أي من أموال الأبحاث جاء من الخارج ــ من السهل نسبيا التهرب منها.

كذلك الأمر بالنسبة لأنواع الشفافية التي تفرضها وسائل الاعلام، وليس الحكومة، فعندما يقتبس الصحافيون أقوال أشخاص من جماعات المُناصرة، فإنهم يميلون إلى شرح التوجه السياسي للمجموعة.

ولكننا لا نفعل الشيء نفسه في كثير من الأحيان مع (علماء) مراكز الأبحاث، الذين يعاملون على نحو أشبه بأساتذة الجامعات وليس كمُتلقين للنقود من الذين يبحثون عن مصالحهم!

في أغلب الأحيان عندما يظهر (عالِم) من مراكز الأبحاث في وسائل الإعلام، يحاول المراسل الذي يقوم بالقصة كتابة حدث أجنبي إخباري أو مشروع قانون مثير للجدل في الكونغرس في الموعد المُحدد، ولا يميل إلى إجراء البحث الذي من شأنه أن يتيح كتابة فقرة “للتأكد” من تدفق (الدخل المالي) الذي يحصل عليه هذا (العالِم)

وعندما يتم الضغط عليه بشأن التبرعات الأجنبية، بطبيعة الحال، تستشهد مراكز الأبحاث عادة بسياسات صارمة تمنع المانحين من التدخل في إنتاج العمل.

أخبر أحد المتحدثين من المجلس الأطلسي، صحيفة بوليتيكو:

“يجب على كل مانح أن يوافق على سياسة الاستقلال الفكري للمجلس الأطلسي، والتي تضمن احتفاظ المجلس الأطلسي باستقلال فكري صارم لجميع مشاريعه ومنشوراته، و هذا يعني أن المانحين يوافقون على إحتفاظ المجلس بالسيطرة المُستقلة على محتوى و إستنتاجات أي منتجات ناتجة عن المشاريع التي ترعاها، لحماية إستقلالنا، لدينا سياسة صارمة لقبول التمويل من مصادر حكومية”.

قالت المتحدثة باسم مؤسسة بروكينغز، جيني لو مالامو، لصحيفة بوليتيكو:

“إن مؤسسة بروكينغز وجميع موظفيها تحكمهم سياسات قوية بشأن إستقلال البحث”

مشيرة إلى أن أقل من 10٪ من الميزانية تأتي عادة من الحكومات الأجنبية.

لكن في الحياة الواقعية، يمكن أن تكون العديد من السياسات الصارمة يسهل التحايل عليها، حيث قال إنريكي مينديزابال، الذي يرأس مؤسسة الفكر البحثي التي تبحث في مؤسسات الفكر الأخرى، لصحيفة بوليتيكو:

“إذا كان علي أن أراهن، فسأقول تجميلًا في أسوأ الأحوال ونوايا حسنة صادقة في أفضل الأحوال، و إن مؤسسات الفكر البحثي نادراً ما تكون مُستقلة (إن كانت كذلك على الإطلاق)، و إن العمل في مؤسسات الفكر والرأي العام يتلخص في التعامل مع التأثيرات غير المبررة، وإثارة الخلاف بين الممولين، والاختباء وراء الأدلة”.

في الوقت الذي أصبحت فيه الطرق أكثر من أي وقت مضى لإيصال آرائك إلى الرأي العام، أصبحت اللعبة القديمة أكثر صعوبة، يقول أنريكي مينديزابال لصحيفة بوليتيكو:

“إن هذا النموذج محكوم عليه بالفشل إلى حد ما، و إنه سياسي بشكل صريح، حيث عندما تلتقي مُؤسسة فكرية بمانح مُحتمل، فإنها تبيع نفوذها على السياسة العامة وقدرتها على الوصول إلى صناع السياسات الرئيسيين وسماسرة السلطة، و إنها تجتذب الممولين الذين يريدون تغيير السياسة العامة، و الممولين الذين يريدون أن يكون لهم تأثير”.

في أماكن أخرى من العالم، أصبح التمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية نقطة خلاف سياسي كبير، وخاصة بالنسبة للأنظمة الاستبدادية مثل (فلاديمير بوتن في روسيا) والقوميين في الهند (مثل ناريندرا مودي)، و لا أحد يستطيع أن يقول إن هذا لا يمكن أن يحدث في الولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب، على الرغم من أنه سيكون مُحرجًا بعض الشيء على الأقل نظرًا لأن العديد من مراكز الأبحاث الأكثر غموضًا تنتمي إلى اليمين!

بدلاً من ذلك، فإن الخطر هو أن الحكومات الأجنبية، وبقية عالم المصالح الخاصة، تتوقف عن النظر إلى مراكز الأبحاث باعتبارها إستثمارًا يستحق العناء.

إذا كانت إدارة ترامب الثانية تشبه الإدارة الأولى على الإطلاق، فسوف تكون فترة خفيفة بشكل ملحوظ من الأراء المؤثرة والاتجاهات التي تصنع الفارق – ولكنها كبيرة على العلاقات الشخصية مع الرئيس.

بناءاً على هذه الخلفية، قد يكون هناك حافز أقل بكثير للمراكز ذات التمويل الجيد لدعم نوع البحث الذي يهدف إلى تشكيل السياسة، و بالنسبة لمراكز الأبحاث، التي لا يمكنها الاعتماد على الرسوم البسيطة والمعروفة مثل الجامعات، فهذا سيناريو خطير للغاية.

قد تكون إحدى الطرق لمنع ذلك هي جعل نفسها أكثر شفافية بشكل إستباقي.

(مُقتبس من مقال في صحيفة بوليتيكو)

للإستماع للمقال

أقرأ المزيد

المقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

عذراً، لايمكن نسخ المحتويات